سورة الأنفال - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا} أي القرآن {هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} هذا اسم {كان} و{هو} فصل و{الحق} خبر {كان}. رُوي أن النضر لما قال: {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين} قال له النبي عليه الصلاة والسلام: «ويلك هذا كلام الله» فرفع النضر رأسه إلى السماء وقال: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} أي إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل {أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} بنوع آخر من جنس العذاب الأليم فقتل يوم بدر صبراً. وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال: أجهل من قومي قومك، قالوا لرسول الله عليه السلام حين دعاهم إلى الحق {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا له {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} اللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم لأنك بعثت رحمة للعالمين وسنته أن لا يعذب قوماً عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم، وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم {وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} هو في موضع الحال ومعناه نفي الاستغفار عنهم أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم، أو معناه وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين. {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله} أي وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وهو معذبهم إذا فارقتهم، وما لهم ألا يعذبهم الله {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وإخراجهم رسول الله والمؤمنين من الصد وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء فقيل {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمر الحرم {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون} من المسلمين. وقيل: الضميران راجعان إلى الله {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند أو أردا بالأكثر الجميع كما يراد بالقلة العدم {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاءً} صفيراً كصوت المكاء وهو طائر مليح الصوت، وهو فعال من مكا يمكوا إذا صفر {وَتَصْدِيَةً} وتصفيقاً تفعلة من الصدى، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم مشبكون بين أصابعهم ويصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته يخلطون عليه {فَذُوقُواْ العذاب} عذاب القتل والأسر يوم بدر {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} بسبب كفركم.
ونزل في المطعين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً وكلهم من قريش، وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وهو سبيل الله {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} ثم تكون عاقبة إنفاقها ندماً وحسرة، فكأن ذاتها تصير ندماً وتنقلب حسرة {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} آخر الأمر وهو من دلائل النبوة لأنه أخبر عنه قبل وقوعه فكان كما أخبر {والذين كَفَرُواْ} والكافرون منهم {إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه.
واللام في {لِيَمِيزَ الله الخبيث} الفريق الخبيث من الكفار {مِنَ الطيب} أي من الفريق الطيب من المؤمنين، متعلقة ب {يُحْشَرُونَ} {ليميّز} حمزة وعلي {وَيَجْعَلَ الخبيث} الفريق الخبيث {بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} فيجمعه {فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ} أي الفريق الخبيث {أولئك} إشارة إلى الفريق الخبيث {هُمُ الخاسرون} أنفسهم وأموالهم.
{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي أبي سفيان وأصحابه {إِن يَنتَهُواْ} عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام {يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} لهم من العداوة {وَإِن يَعُودُواْ} لقتاله {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين} بالإهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى، أو معناه أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي، وبه احتج أبو حنيفة رحمه الله في أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط {وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ} ويضمحل عنهم كل دين باطل ويبقى فيهم دين الإسلام وحده {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن الكفر وأسلموا {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يثيبهم على إسلامهم {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا {فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ} ناصركم ومعينكم فثقوا بولايته ونصرته {نِعْمَ المولى} لا يضيع من تولاه {وَنِعْمَ النصير} لا يغلب من نصره. والمخصوص بالمدح محذوف.
{واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم} {ما} بمعنى {الذي}، ولا يجوز أن يكتب إلا مفصولاً إذ لو كتب موصولاً لوجب أن تكون {ما} كافة و{غَنِمْتُمْ} صلته والعائد محذوف والتقدير: الذي غنمتموه {مِّن شَئ} بيانه قيل حتى الخيط والمخيط {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} والفاء إنما دخلت لما في {الذي} من معنى المجازاة و{أن} وما عملت فيه في موضع رفع على أنه خبر مبدأ تقديره: فالحكم أن لله خمسة {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} فالخمس كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله، وسهم لذي قرابته من بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل استحقوه حينئذ بالنصرة لقصة عثمان وجبير بن مطعم، وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل، وأما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسهمه ساقط بموته، وكذلك سهم ذوي القربى، وإنما يعطون لفقرهم ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان على ستة: لله والرسول سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر رضي الله عنه الخمس على ثلاثة، وكذا عمر ومن بعده من الخلفاء رضي الله عنهم، ومعنى {لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} لرسول الله كقوله {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] {إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله} فاعملوا به وارضوا بهذه القسمة فالإيمان يوجب الرضا بالحكم والعمل بالعلم {وَمَا أَنزَلْنَا} معطوف على {بالله} أي إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل {على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان} يوم بدر {يَوْمَ التقى الجمعان} الفريقان من المسلمين والكافرين، والمراد ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ وهو بدل من {يَوْمَ الفرقان} {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} يقدر على أن ينصر القليل على الكثير كما فعل بكم يوم بدر. {إِذْ أَنتُم} بدل من {يَوْمَ الفرقان} والتقدير: اذكروا إذ أنتم {بِالْعُدْوَةِ} شط الوادي، وبالكسر فيهما: مكي وأبو عمرو {الدنيا} القربى إلى جهة المدينة تأنيث الأدنى {وَهُم بالعدوة القصوى} البعدى عن المدينة تأنيث الأقصى، وكلتاهما فعلى من بنات الواو، والقياس قلب الواو ياء كالعليا تأنيث الأعلى، وأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل {والركب} أي العير وهو جمع راكب في المعنى {أَسْفَلَ مِنكُمْ} نصب على الظرف أي مكاناً أسفل من مكانكم يعني في أسفل الوادي بثلاثة أميال، وهو مرفوع المحل لأنه خبر المبتدأ {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال {لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} لخالف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له {ولكن} جمع بينكم بلا ميعاد {لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} من إعزاز دينه وإعلاء كلمته، أو اللام تتعلق بمحذوف أي ليقضي الله أمراً كان ينبغي أن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك. قال الشيخ أبو منصور رحمه الله: القضاء يحتمل الحكم أي ليحكم ما قد علم أنه يكون كائناً، أو ليتم أمراً كان قد أراده، وما أراد كونه فهو مفعول لا محالة وهو عز الإسلام وأهله وذل الكفر وحزبه ويتعلق ب {يَقْضِى} {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ} {حيي} نافع وأبو عمرو، فالإدغام لالتقاء المثلين، والإظهار لأن حركة الثاني غير لازمة، لأنك تقول في المستقبل (يحيا) والإدغام أكثر.
استعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام أي ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالجة شبهة حتى لا يبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به، وذلك أن وقعة بدر من الآيات الواضحة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها، ولهذا ذكر فيها مراكز الفريقين، وأن العير كانت أسفل منهم مع أنهم قد علموا ذلك كله مشاهدة ليعلم الخلق أن النصر والغلبة لا تكون بالكثرة والأسباب بل بالله تعالى، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضاً لا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة، وكان العيروراء ظهور العدو مع كثرة عددهم وعدتهم وقلة المسلمين وضعفهم ثم كان ما كان {بَيّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ} لأقوالهم {عَلِيمٌ} بكفر من كفر وعقابه وبإيمان من آمن وثوابه.


{إِذْ يُرِيكَهُمُ الله} نصب بإضمار (اذكر)، أو هو متعلق بقوله {لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي بعلم المصالح إذ يقللهم في عينك {فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} أي في رؤياك، وذلك أن الله تعالى أراه إياهم في رؤياه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فكان ذلك تشجيعاً لهم على عدوهم {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} لجبنتم وهبتم الإقدام {ولتنازعتم فِي الأمر} أمر القتال وترددتم بين الثبات والفرار {ولكن الله سَلَّمَ} عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع.
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ} الضميران مفعولان أي وإذ يبصركم إياهم {إِذِ التقيتم} وقت اللقاء {فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} هو نصب على الحال. وإنما قللهم في أعينهم تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا. قال ابن مسعود رضي الله عنه: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة وكانوا ألفاً {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} حتى قال قائل منهم: إنما هم أكلة جزور. قيل: قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ثم كثرهم فيما بعده ليجترئوا عليه قلة مبالاة بهم ثم تفجأهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا، ويجوز أن يبصروا الكثير قليلاً بأن يستر الله بعضهم بساتر، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين، قيل لبعضهم: إن الأحول يرى الواحد اثنين وكان بين يديه ديك واحد فقال: مالي لا أرى هذين الديكين أربعة: {لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مفعولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} فيحكم فيها بما يريد {تَرْجَعُ} شامي وحمزة وعلي.
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} إذا حاربتم جماعة من الكفار وترك وصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار، واللقاء اسم غالب للقتال {فاثبتوا} لقتالهم ولا تفروا {واذكروا الله كَثِيراً} في مواطن الحرب مستظهرين بذكره مستنصرين به داعين له على عدوكم: اللهم اخذلهم اللهم اقطع دابرهم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة، وفيه إشعار بأن على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هماً، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في الأمر بالجهاد والثبات مع العدو وغيرهما {وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ} فتجبنوا وهو منصوب بإضمار (أن) ويدل عليه {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي دولتكم يقال: (هبت رياح فلان) إذا دالت له الدولة ونفذ أمره، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيته بالريح وهبوبها.
وقيل: لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله، وفي الحديث: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» {واصبروا} في القتال مع العدو وغيره {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} أي معينهم وحافظهم {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم بَطَراً وَرِئَاءَ الناس} هم أهل مكة حين نفروا لحماية العير فأتاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فأبى أبو جهل وقال: حتى نقدم بدراً ونشرب بها الخمور وننحر الجزور وتعزف علينا القيان ونطعم بها العرب، فذلك بطرهم ورياؤهم الناس بإطعامهم فوافوها فسقوا كأس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيام، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم، وأن يكونوا من أهل التقوى والكآبة والحزن من خشية الله مخلصين أعمالهم لله. والبطر أن تشغله كثرة النعمة عن شكرها. {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} دين الله {والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} عالم وهو وعيد.
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس} واذكر إذ زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون. وغالب مبني نحو (لا رجل) و{لَكُمْ} في موضع رفع خبر {لا}. تقديره: لا غالب كائن لكم {وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} أي مجير لكم أوهمهم أن طاعة الشيطان مما يجيرهم {فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان} فلما تلاقى الفريقان {نَكَصَ} الشيطان هارباً {على عَقِبَيْهِ} أي رجع القهقرى {وَقَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ} أي رجعت عما ضمنت لكم من الأمان. روي أن إبليس تمثل لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم في جند من الشياطين معه راية، فلما رأى الملائكة تنزل نكص فقال له الحارث بن هشام: أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال: {إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ} أي الملائكة وانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة. فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان {إِنّي أَخَافُ الله} أي عقوبته {والله شَدِيدُ العقاب} اذكروا {إِذْ يَقُولُ المنافقون} بالمدينة {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} هو من صفة المنافقين، أو أريد والذين هم على حرف ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم فخرجوا وهم ثلثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف. ثم قال جواباً لهم {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله} يكل إليه أمره {فَإِنَّ الله عَزِيزٌ} غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي {حَكِيمٌ} لا يسوي بين وليه عدوه.
{وَلَوْ تَرَى} ولو عاينت وشاهدت لأن {لو} ترد المضارع إلى معنى الماضي كما ترد {إن} الماضي إلى معنى الاستقبال {إِذْ} نصب على الظرف {يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ} بقبض أرواحهم {الملائكة} فاعل {يَضْرِبُونَ} حال منهم {وُجُوهُهُمْ} إذا أقبلوا {وأدبارهم} ظهورهم وأستاههم إذا أدبروا، أو وجوههم عند الإقدام وأدبارهم عند الانهزام.
وقيل: في {يَتَوَفَّى} ضمير الله تعالى، و{الملائكة} مرفوعة بالابتداء و{يَضْرِبُونَ} خبر والأول الوجه، لأن الكفار لا يستحقون أن يكون الله متوفيهم بلا واسطة دليله قراءة ابن عامر {تتوفى} بالتاء {وَذُوقُواْ} ويقولون لهم ذوقوا معطوف على {يَضْرِبُونَ} {عَذَابَ الحريق} أي مقدمة عذاب النار، أو ذوقوا عذاب الآخرة بشارة لهم به، أو يقال لهم يوم القيامة: ذوقوا. وجواب {لو} محذوف أي لرأيت أمراً فظيعاً.
{ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي كسبت وهو رد على الجبرية، وهو من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة. و{ذلك} رفع بالابتداء و{بِمَا قَدَّمَتْ} خبره {وَأَنَّ الله} عطف عليه أي ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم ومعاصيكم، وبأن الله {لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} لأن تعذيب الكفار من العدل. وقيل: ظلام للتكثير لأجل العبيد، أو لنفي أنواع الظلم. الكاف في {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ} في محل الرفع أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون، ودأبهم عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه أي داوموا عليه {والذين مِن قَبْلِهِمْ} من قبل قريش أو من قبل آل فرعون {كَفَرُواْ} تفسير لدأب آل فرعون {بئايات الله فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب} والمعنى جروا على عادتهم في التكذيب فأجرى عليه مثل ما فعل بهم في التعذيب {ذلك} العذاب أو الانتقام {بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} بسبب أن الله لم يصح في حكمته أن يغير نعمته عند قوم حتى يغيروا مابهم من الحال، نعم لم يكن لآل فرعون ومشركي مكة حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة، لكن لما تغيرت الحال المرضية إلى المسخوطة تغيرت الحال المسخوطة إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام، فلما بعث إليهم بالآيات فكذبوه وسعوا في إراقة دمه، غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ} لما يقولوا مكذبو الرسل {عَلِيمٌ} بما يفعلون {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ} تكرير للتأكيد، أو لأن في الأولى الأخذ بالذنوب بلا بيان ذلك، وهنا بين أن ذلك هو الإهلاك والاستئصال {والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بئايات رَبِّهِمْ} وفي قوله {بآيات رَبِّهِمْ} زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق {فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَونَ} بماء البحر {وَكُلٌّ} وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش {كَانُواْ ظالمين} أنفسهم بالكفر والمعاصي.
{إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي أصروا على الكفر فلا يتوقع منهم الإيمان {الذين عاهدت مِنْهُمْ} بدل من {الذين كَفَرُواْ} أي الذين عاهدتهم من الذين كفروا وجعلهم شر الدواب، لأن شر الناس الكفار وشر الكفار المصرون وشر المصرين الناكثون للعهود {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} في كل معاهدة {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون بما فيه من العار والنار.


{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب} فإما تصادفنهم وتظفرن بهم {فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} ففرق من محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم من وراءهم من الكفرة حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم. وقال الزجاج: افعل بهم ما تفرق به جمعهم وتطرد به من عداهم {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} لعل المشردين من ورائهم يتعظون {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ} معاهدين {خِيَانَةً} نكثاً بأمارات تلوح لك {فانبذ إِلَيْهِمْ} فاطرح إليهم العهد {على سَوَاءٍ} على استواء منك ومنهم في العلم بنقض العهد وهو حال من النابذ والمنبوذ إليهم أي حاصلين على استواء في العلم {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} الناقضين للعهود {وَلاَ يَحْسَبَنَّ} بالياء وفتح السين: شامي وحمزة ويزيد وحفص، وبالتاء وفتح السين: أبو كبر، وبالتاء وكسر السين: غيرهم {الذين كَفَرُواْ سَبَقُواْ} فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم {أَنَّهُمْ} شامي أي لأنهم، وكل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل غير أن المكسورة على طريقة الاستئناف، والمفتوحة تعليل صريح؛ فمن قرأ بالتاء ف {الذين كَفَرُواْ} مفعول أول والثاني {سَبَقُواْ} ومن قرأ بالياء ف {الذين كَفَرُواْ} فاعل و{سَبَقُواْ} مفعول تقديره أن سبقوا فحذف {أن}، و{أن} مخففة من الثقيلة أي أنهم سبقوا فسد مسد المفعولين، أو يكون الفاعل مضمراً أي ولا يحسبن محمد الكافرين سابقين ومن ادعى. تفرد حمزة بالقراءة، ففيه نظر لما بيناه من عدم تفرده بها. وعن الزهري أنها نزلت فيمن أفلت من فل المشركين.
{وَأَعِدُّواْ} أيها المؤمنون {لَهُمْ} لناقضي العهد أو لجميع الكفار {مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ} من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها وفي الحديث: «ألا إن القوة الرمي» قالها ثلاثاً على المنبر. وقيل: هي الحصون {وَمِن رِّبَاطِ الخيل} هو اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، أو هو جمع ربيط كفصيل وفصال، وخص الخيل من بين ما يتقوى به كقوله {وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] {تُرْهِبُونَ بِهِ} بما استطعتم {عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} أي أهل مكة {وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} غيرهم وهم اليهود، أو المنافقون، أو أهل فارس، أو كفرة الجن. في الحديث: «إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا دارا فيها فرس عتيق» وروي أن صهيل الخيل يرهب الجن {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} لا تعرفونهم بأعيانهم {الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} يوفر عليكم جزاؤه {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} في الجزاء بل تعطون على التمام {وَإِن جَنَحُواْ} ما لوا جنح له وإليه مال {لِلسَّلْمِ} للصلح وبكسر السين: أبو بكر وهو مؤنث تأنيث ضدها وهو الحرب {فاجنح لَهَا} فمل إليها {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم فإن الله كافيك وعاصمك من مكرهم {إِنَّهُ هُوَ السميع} لأقوالك {العليم} بأحوالك {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} يمكروا ويغدروا {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} كافيك الله {هُوَ الذي أَيَّدَكَ} قواك {بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} جميعاً أو بالأنصار.
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} قلوب الأوس والخزرج بعد تعاديهم مائة وعشرين سنة {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي بلغت عداوتهم مبلغاً لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر عليه {ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} بفضله ورحمته وجمع بين كلمتهم بقدرته، فأحدث بينهم التوادّ والتحابّ وأماط عنهم التباغض والتماقت {إِنَّهُ عَزَيْرٌ} يقهر من يخدعونك {حَكِيمٌ} ينصر من يتبعونك. {ياأيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} الواو بمعنى {مع} وما بعده منصوب، والمعنى كفاك وكفى أتباعك المؤمنين الله ناصراً. ويجوز أن يكون في محل الرفع أي كفاك الله وكفاك أتباعك من المؤمنين. قيل: أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} التحريض المبالغة في الحث على الأمر من الحرض وهو أن ينهكه المرض حتى يشفي على الموت {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الذين كَفَرُواْ} هذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله وتأييده {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} بسبب أن الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته، بخلاف من يقاتل على بصيرة وهو يرجو النصر من الله. قيل: كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد للعشرة، ثم ثقل عليهم ذلك فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين بقوله {الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} {ضعفاً} عاصم وحمزة {فَإِن يَكُن مِّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ} بالياء فيهما: كوفي، وافقه البصري في الأولى والمراد الضعف في البدن {يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} وتكرير مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده، للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة لا تتفاوت، إذ الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف، وكذلك بين مقاومة المائة المائتين والألف الألفين.

1 | 2 | 3